لم تعد الكتابة تستهويني مؤخرا في حساباتي على شبكات التواصل الاجتماعي، وهي مساحات صممها وطورها من أراد أن يقال فيها ما يريد، ويُكتب فيها ما يشاء، وأي انحياز خارج إطار خطه المزعوم ينذر صاحبه ويحظر ويطرد، الأمر أشبه بالتسول والاستجداء، خضوع لا مبرر له، وخنوع لا يأتي من ورائه سوى المزيد من الوهن والهوان، لم أنشر إلا القليل النادر مما يتعلق بالقضية الأم، ولست ممن يتخذ ذلك النشر معيارا ولا مؤشرا.

تسارعت الأحداث منذ حوالي عام من اليوم، وصار العالم أكثر جنونا وغباء في آن واحد، انكسرت أمواج من الأوهام في صخرة غزة، وانكشفت الأقنعة انكشافا ذريعا، جاء الطوفان هذه المرة أقوى من أي انتفاضة أو ثورة أو هبّة سبقت، استشهدت قامات وقيادات في ظرف وجيز، ودب الخوف والفزع، وتساورت الشكوك للقلوب المتعاطفة المتضامنة، حتى كادت تفقدها الوعي من هول الصدمات المتتالية، لسان حال الجميع ينادي: متى نصر الله؟!

تظافرت الجهود الضئيلة نصرة للقضية بين مجرد مقاطع للمنتجات الاستهلاكية وهو أضعف الإيمان، إلى منفق بالمال عبر مختلف القنوات والمسالك المتاحة، وبينهما مجاهد بدعائه وقلمه ولسانه ومواقفه، بينما جموع كبيرة من الغافلين تبرر وتفسر وترمي سهاما ورقية يمينا وشمالا بقناعات هشة بعيدة كل البعد عن أي معيار إنساني أو ديني أو فكري عادل، منقادون بمعلومات مغلوطة متراكمة عبر السنين تناقلتها أجيال مقهورة مغلوب على أمرها، كما أن ثلة من ذوي القلوب المرهفة انتابتهم نوبات اكتئاب وعزلة وانكماش حول ذواتها، أحكمت الحيرة زمام أفئدتهم فشلّت أيديهم وألسنتهم عن القول والفعل.

تناقلت القنوات الأخبار بين من يصف الفقيد بالمقتول ومن يتشرف هو بوصفه بدرجة الشهادة، كان الأمر في البداية متعلقا بأرقام الشهداء، ثم انتقل لدرجة الرموز وقيمة المستهدف المغدور، استهدفت العدو المدنيين العزل وقيادات شكلت لديه خصما وهدفا مشروعا دون أي اعتبار لأبسط تقاليد وأعراف الحروب، كل القيم انتهكت، إلا أن العزيمة لازالت أكبر، ويقيننا بالله يبقي فينا الأمل بالنصر المؤزر عاجلا أم آجلا، نصر قد لا ندركه، إلا أنه ستحقق بإذن الله.

حرب رأينا فيها وعشنا قصصا عن قرب بفضل التقنيات الحديثة، وهو ما كان غائبا فيما سبق، وكلما قرأنا في كتب التاريخ عن حرب التحرير وثورة أجدادنا في الجزائر ضد المستدمر الفرنسي، أدركنا ذلك التشابه الذي يمدنا بنوع من الارتياح والثقة في أن الله مع الصابرين، ولن يضيع أجر المحسنين، ومن أجدر وأكثر صبرا وإحسانا من أهلنا في غزة هذا العصر؟ قصص ومواقف عايشتها عيانا منهم تزيدني يقينا وإيمانا، فطوبى لهم ويا لحظهم.

استشهد قادة ورجال سيخلدهم التاريخ في سجله الذهبي المشرف، ولا ندري هل نفجع لهم أم نتشرف ونستبشر ونهنئ، سبحان الله ما أعقد هذه المشاعر المتضاربة التي تفوق موازين العقل وحدود المنطق الضيقة، حقا اهتز الكثير لاستشهاد القائد يحيى السنوار وهو من أنبياء وصحابة هذا العصر، ونحسبه عند الله من المتقين المخلصين، وبين يدي هذه الأيام روايته الخالدة “الشوك والقرنفل” ولا شك أنها بين يدي الكثير غيري، وما أعذب المطالعة بروح ومعنى واستحضار واستشعار لقيمة من وما كتب، فهو لم يكتبها في مكتب فاخر مع كوب قهوة ونافذة تطل على شارع مبلل بالمطر، بل كتبها في سياق معاناة ومصابرة وألم.

سوف أكبح جماح كلماتي ولا أسترسل، فالخجل كل الخجل من الثرثرة في زمن كثرت فيه الكلمات وقلت المبادرات والأفعال، هي مجرد خواطر من وحي الأيام الحالكة المشرقة، أيام نكثر فيها الدعاء وقول الخير أو الصمت!