لحجز التذكرة كان أول ما تبادر لذهني الذهاب للمطار كعادتي في كل أسفاري بما أن وكالات السفر مغلقة، ولأنه لا يبعد عن البيت سوى حوالي عشر دقائق، لم أبرمج لتلك المهمة وقتا كبيرا، وتركت الأمر للذهاب حينما تتاح الفرصة بين ارتباطين ليكون الخروج من المكتب مرة واحدة، كنت أعتقد أن الأمور بسيطة، ولازلت أحمل في ذهني ظروف الأيام العادية وما كان قبل كورونا.

سنحت لي فرصة الذهاب للمطار رفقة صديق، ودخلنا مبنى المطار الجديد T4 بعد مشوار طويل من المشي بين مواقف السيارات وقاعة المغادرين، وعندما وصلنا مررنا بالأمن وإجراءات التفتيش الروتينة، وجدت طابور حجز التذاكر قصيرا، وقفت وانتظرت دوري مع التزام مسافة التباعد الموضحة بملصقات في الأرض، وما إن حان دوري حتى فاجاتني الموظفة بأنه عليّ التوجّه لفندق الأوراسي وسط العاصمة، وحجز التذكرة من هناك، فهي تستقبل هنا من رحلته اليوم أو غدا، أو من أتم حجزه إلكترونيا فقط.

لم تكن خيبة الأمل كبيرة، فقد اعتدت عدم إتمام الأمور ببساطة في هذا البلد، وأي سير عادي للإجراءات يعتبر كمينا وأتوقع منه انتكاسة في الأخير، وهذا قدر المواطن هناك بقلة المعلومات وندرتها، هم يجعلونك تتخبط وتتقبل الأمر، وأي استغراب منك تصبح فيه أنت الغريب الذي يهذي بما لا يعلم، أخبرت صديقي أنه يتوجّب علي الذهاب إلى الأوراسي في فرصة قادمة، وليس علينا تضييع الوقت حاليا في الموضوع، ولنعد لأشغالنا الأخرى.

بعد يومين على ما أذكر، قررت الذهاب لحجز التذكرة وقد غامرت بحجز التذكرة الثانية إلكترونيا ودفعت ثمنها، وأي مشكلة أو تأجيل للرحلة الأولى من الجزائر إلى باريس سيورطني في عدم صلاحية التذكرة من باريس إلى مسقط، إلا إن حظيت باستثناء بسبب كورونا، فهي المخلصة أحيانا والمعرقلة أحيانا أخرى، كنت أتوجّس خيفة من عدم تمكني من الحجز خاصة والموعد يقترب وبما أنها الوجهة الوحيدة وخيط الأمل الرقيق لكل مسافر في هذه الفترة، فقد حضرت نفسي لتقبّل أي مفاجآت.

وصلت إلى فندق الأوراسي في حوالي الساعة 11 صباحا، وقد زرته آخر مرة قبل حوالي 15 عاما لنفس الغرض، هناك تشعر بوجود جزائر جميلة أنيقة وترى حقا ذلك التباين في نمط الحياة، والأوراسي فندق شهد ويشهد الكثير من الفعاليات المهمة وقد ارتبط اسمه بأنشطة الحكومة والدولة أكثر من أي شيء، بعدما طلبت من الذي أوصلني مشكورا أن يذهب لأعماله وإن احتجته أناديه، دخلت الفندق من بوابته الرئيسة ووجدت عون الأمن فسألته عن مكان حجز التذاكر، قال لي: ليس من هذا المدخل، أنت بعيد جدا عنه، لكن لن أتركك تذهب من الطريق المعتادة، سأدلك على طريق مختصرة لتصل سريعا لأن المدخل خلف المبنى تماما، وهنا أشار لشخص معه بأن يرافقني، وفعل ذلك مشكورا.

كان الجو باردا ومطيرا رغم أني لم أعلم بذلك مسبقا، وقد خرجت من البيت بملابس الصيف الخفيفة، تبادرت لذهني كل الاحتمالات كإصابتي بالزكام، وبالتالي قد تظهر كأنها أعراض كورونا، وهكذا أحرم من السفر، لأني كما بحثت في الأمر يتشددون كثيرا في المطار في هذه القضية، ويمنعون أي شخص من ركوب الطائرة تبدو عليه أمارات صحية غير عادية.

وصلت أمام البوابة لأجد جمعا غفيرا من المنتظرين خارج المبنى وتحت سقف يقيهم المطر، سألت أحدهم عن حجز التذاكر وأخبرني أن الجميع هنا لذات الغرض، وأشار إلي بكتابة اسمي وانتظار دوري، تقدمت لطاولة صغيرة وضعت فوقها ورقة وقلما وقائمة أسماء ينتهي آخرها بالرقم 143، كتبت اسمي وقد دخل صاحب الرقم 25 لتوه، وأنا أتساءل عن إمكانية الوصول لمكتب الحجز، خاصة لما علمت أنهم ينتظرون هنا منذ الفجر، وهي ممارسات مألوفة في بلدنا للأسف مثل ما يحدث مع مواعيد الطبيب وسابقا حتى في مقر الدائرة لاستخراج جواز السفر، وهناك عليك كتابة اسمك عند محل شواء بقرب مقر الدائرة ودفع مبلغ 100دج مع تذمر ومنّ من صاحب الفخامة الأخ الشواي.

جلست إلى ركن بعيد مع جهازي الذي حمدت الله أنه مشحون جيدا، مع توفر تغطية 4G مما سيمكنني من إنجاز الكثير من المهام، والعودة لمحادثات لازالت عالقة وقد طلبت من أصحابها الإذن بالعودة إليها لاحقا للإجابة، وبين الحين والآخر يأتي عون الأمن لينادي بعشرة أسماء يدخلهم كأفواج تماشيا مع الإجراءات الاحترازية للسيدة كورونا، والمنتظرون يسألونه عن إمكانية بلوغ أدوارهم، إلى أن طمأننا بأن كل من في القائمة سيمر، وطلب التوقف عن إضافة أي اسم بعد ذلك، وقد سجل بعدي حوالي خمسة أشخاص فقط.

وصل دوري لأدخل مكتب الخطوط الجوية الفرنسية وقمت بحجز التذكرة النادرة الوحيدة الغالية مضطرا عملا بـ “إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركباً *** فما حيلة المضطر إلى ركوبها” وعدت للبيت بعد مشوار شاق أخذ مني جهدا كبيرا بينما كان يمكن إتمام الموضوع في دقيقة لو كنا كغيرنا من البلدان فعلا، فالأمر فعلا تعدى كل تبرير قد نقنع به أنفسنا لنجد جوابا لأسئلتنا المتداخلة عن أسباب التخلف المبرمج هذا، وصدق من قال: “ولم أر في الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام”، ومن تبعات هذه المهمة الشاقة أنها استلزمت مني مقالة كاملة لأصف الأجواء وأضع كل قارئ مهتم في الصورة.

يتبع في الحلقة القادمة..