ذات يوم من أيام الطفولة المليئة بالشغب ما ظهر منها وما بطن.. أرسلني أخي الأكبر حفظه الله لأحضر الفطور لثلاثة عمال من إخوتنا الماليين وقد كانوا في مهمة إصلاحات وصيانة لبيتنا السابق تحضيرا لمناسبة عرس في العائلة (ذلك البيت تم حرقه وتخرييه لاحقا على يد المجرمين لعنة الله عليهم)..

كانت هناك في مدينتنا مطاعم صغيرة تقدم ضمن قائمة أطباقها فطور العمال كوجبات ساخنة، وهو ما يشار إليه في لافتاتها فضلا عن الأكل السريع.. كانت هذه أول تجربة لي في هذه المهمة، وما إن دخلت المحل حتى لمحت طابورا طويلا ينتهي إلى منصة يسكب فيها أحد العمال الطعام في إناء يحضره الزبون ويشتري الوجبة الجاهزة ذلك اليوم دون اختيار حسب عدد أفرادها، بينما في الجانب الآخر كان هنا شبه طابور من ثلاثة أشخاص فقط على ما أذكر. تسللت إليه غير مدرك الفرق بينهما، منتظرا دوري علي أحظى ببعض الدقائق وأصل قبل من وقف في الطابور الأول الطويل.

وصل دوري لأجد المكلف بتقديم الوجبات شخصا ضخما تبدو عليه أمارات الحزم وصفات المسؤول الأول عن المطعم.. رأيته يطوي الدجاج المحمر في ورق ويضعه في كيس لمن كان قبلي، وما إن نظر إلي نظرة فيها السؤال والاستعجال بطلبي.. قلت له أريد فطورا للعمال، ما كان منه إلا أن صرخ متهكما بغضب: مكانك هناك في ذلك الطابور… لماذا تضع نفسك فيما يفوقك؟! (هامي تعلڤد إمانتش؟!).. أثار الموقف ضحك كل من كان هناك، وأحسست بشيء من الإهانة العابرة، وهذه ميزة شعورنا في الطفولة، لأن الإهانة تمسح التي قبلها، والورطة تنسي ما سبقها، والمغامرة تجب المغامرة التي قبلها، واليوم لازال طويلا.

أوردت هذه القصة لأسوق بها مثالا وعبرة، هي أننا في حياتنا نقرر مكانتنا جزئيا، ونجد أنفسنا في مقام ما رغما عنا لأسباب كثيرة قد لا تتعلق بنا بالضرورة، وفي التجارة وعالم الأعمال هناك ما يصطلح عليه بالفئة المستهدفة، وفي الكتابة كذلك والسياق المعرفي.

لا يمكنك أن تطبخ.. أو تبيع.. أو تكتب.. شيئا يليق بالجميع، إنما هناك من هو أعلى من ذلك درجة أو أقل منها، والجدوى والفعالية تتطلب استهداف الزبون بدقة، تفاديا لإنفاق وإهدار كلفة مادية أو معنوية في غير مكانها.

كذلك في حال كنت زبونا، قارئا، تأكد أن ما تشتريه أو تقرأه من مستواك حتى تتفاعل معه، ولا تصدم ولا تشعر بالإهانة إذا وجدته أعلى منك، كما لا تتنمر ولا تتصرف بغرور إذا وجدته أقل منك وأدنى مستوى.

الفيسبوك وأخواتها وفرت خاصية التجاوز وإلغاء المتابعة وإخفاء المنشورات، تصرف بمبدأ الاستهداف الدقيق، وستتجنب الكثير من الإزعاج والانزعاج.