كتاب جميل يسرح بقارئه عميقا للنظر في ذاته وعلاقاته بمن حوله، يقيمها ويعيد ترتيبها وتصنيفها، وما أجمل العلم وأفصح لغته حينما يحلل ظاهرة ما، ويغوص في تفاصيلها فضلا عن تراكم التجارب الإنسانية فيها، ومن منا لم تحدث له انتكاسة في حياته ممن كان يعتبره صديقا، ومن منا لم يمر بتجربة صعبة وخيبة أمل بعدما وضع ثقته واطمأن وظن أنها في أمان، ثم تساءل عن سبب تلك الخيبة وذلك التخاذل، أو حتى الخيانة.
ظاهرة الصداقة إنسانية كونية، لا تختص بجنس دون آخر، ولا مجتمع دون غيره، الأصدقاء هم بمثابة العائلة التي نختارها، نرسم معالمها، نتعهدها بالرعاية والصيانة، نحدد المسافات بيننا، نقرب من نقرب، ونفضل الأمان والبعد عن بعضها، نختار ما يمكن البوح به معهم أو كتمانه، باحثين عن متعة ورفاهية منشودة للحياة، وتلبية لحاجة وغريزة داخل كل واحد منا، حيث يصنف العلماء الانعزال والميل للوحدة مرضا وأمرا غير صحي.
صاغ العلماء عدة تعريفات للصداقة، ولعل ما يجمعهم فيها هي أنها العلاقة التي تجعل صاحبها يشعر بالرضا، ولدوامها واستمرارها يجب أن تقوم على مبادئ، الإخلاص وحسن النوايا، المصالح المتبادلة بانسجام، التعاون بين الطرفين بإحسان، ورغم ذلك فقد قيل “اتق شر من أحسنت إليه” وقيل: “احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة” وقيل: “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند” وغيرها الكثير مما قيل وكتب في الجانب المظلم للصداقة، كما كتب وقيل الكثير فيما يتعلق بالجانب المشرق والجميل، فالإنسان اجتماعي بطبعه، يتعامل ويعاشر، يحسن ويسيء، ينجح ويفشل، ولكن لا يمكنه العيش دون أصدقاء.
أبدعت المؤلفة ليديا دنورث Lydia Denworth في تحليل معاني الصداقة، مستدلة أحيانا بعالم الحيوان، صالت وجالت حول المفهوم والمصطلح من عدة زوايا، وإن كنت كقارئ أتحفظ من بعض ما ذهبت إليه، إلا أن الجهد مشكور محفز للمزيد من الحفر والبحث والغوص في أعماق الذات والذهنية الإنسانية ومنطلقاته النفسية والشاعرية وما هو كامن في الوجدان وما يفصحه اللسان أو تترجمه الأفعال ويعبر عنه السلوك.
ذهبت الكاتبة إلى أن الصداقة ليست مجرد رفاهية عاطفية، بل تعتبرها ضرورية لتحسين الصحة البدنية والنفسية، وهي مؤثر مباشر وفعال على القلب والأوعية والشرايين الدموية في أجسامنا، وصولا إلى التأثير الإيجابي على الجهاز المناعي وحتى نظام النوم، وهذا وفق دراسة علمية أجرتها في جامعة هارفارد على عينة موسعة من الناس، حيث خلصت إلى أن مصدر الصحة والسعادة في حياتهم في نسبته الأكبر، كانت من علاقات الصداقة التي كونوها، وليست من الثروة ولا من النجاح في مشوارهم المهني.
لو جئنا إلى عصرنا هذا فنحن أمام امتدادات وتفرعات أكثر تعقيدا للموضوع، مع ظهور منصات وشبكات التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، وما يستقبلنا ويستقبل أبناءنا في عالم الميتافيرس، حيث دخلت الصداقة الافتراضية حياتنا وحملت معها الكثير من الجديد بين ما هو إيجابي وماهو سلبي، فلم تعد الصداقة كما عهدناها بمعناها الصلب، بل صارت سائلة هلامية سريعة موسعة.
ولكي لا يبقى الإنسان حبيس تلك الهواجس والعواطف المتضاربة، ولكي يقوم وينطلق من جديد، ولكي لا تغطي عليه بعض الحالات الفاشلة النادرة جمال علاقات أخرى ينعم بها، أنصح بقراءة هذا الكتاب لفهم معنى الصداقة وتاريخها ومزاياها وآثارها على الصحة النفسية وحتى العضوية على حد سواء.
الكتاب من نشر الدار العربية للعلوم ناشرون / نوفمبر 2021
Comment (1)
شكرا يا أستاذ جابر على العرض الجميل. يبدو كتابا مفيدا سأحاول قراءته.
https://marissiblog.wordpress.com/