لم تبق لي سوى بضعة أيام لأنهي الكثير من الالتزامات قبل السفر، سواء ما تعلق به أو ما كانت تبعات مهنية أو أسرية يجب إتمامها، مع استحضار خصوصية هذه الرحلة بما أنها ذهاب دون تحديد تاريخ واضح للعودة، وبما أن ظروف الوباء لازالت غامضة، ولا فكرة لنا عن مواعيد فتح المطارات، وما بين الخوف والرجاء، وبين الحاجة والضرورة كان القرار في خوض المغامرة المحفوفة بالمخاطر.

كلما اقترب الموعد إلا وأجدني بين عاطفتين متناقضتين لم يسبق لي الشعور بهما فيما سبق من كل أسفاري إلى حوالي 20 دولة حول العالم، إقدام ممزوج بالتردد، وكأنها أول مرة في حياتي، وهي فعلا كذلك فالظروف ليست نفسها، وكم كان القرار صعبا كلما دخلت البيت وتسابق نحوي أبنائي، يتقدمهم فارس، وكلما التقيت فردا من عائلتي سألني عن قدرتي على فراقهم، وكم زادت جرعة السؤال قساوة ووقعها الأليم على قلبي عندما يأتي السؤال بصيغة: شخص عنده ملاك مثل هذا ويفكر في السفر والبعد عنه؟

في يوم السفر كنت أسابق الزمن لأتم أكبر قدر من المتعلقات ولو أني كنت مهيآ نفسيا أني لن أصل لكل شيء، إلا أني بذلت جهدي ورتبت أولوياتي فكانت اللحظات الأخيرة قبل الذهاب للمطار مكتظة نوعا ما، وهو ما أدى لاحقا لنسيان بعض الأغراض البسيطة، حزمت أمتعتي القليلة وودعت زوجتي وأبنائي وفريق العمل في الشركة، وكل مغادر يستحضر تلك اللحظات الشاعرية التي يغالب فيها الشوق دموعه.

في المطار كان معي والدي الحبيب وأخي وصديقي الذين رافقوني مشكورين إلى آخر محطة يفترق فيها المسافرون وذويهم، اتخذت مكاني في طابور التسجيلات والذي كان طويلا جدا يتخلله وفد من الصينيين ببذلتهم المميزة الشبيهة ببذلة الأطباء في المستشفيات خلال مرحلة كورونا، وفي كل ابتسامة من أحدهم أجد في عمقي غيظ شديد كلما أستذكر قصة آكل الخفاش التي أودت بالعالم كله، والله أعلم بصحة الرواية، فنحن يوما بعد آخر نكتشف خبث الإنسان واستعداده لدمار البشرية في سبيل مطامعه وجشعه.

عندما حان دوري تقدمت لمكتب التسجيلات وهواجس إلغاء رحلتي لأي سبب كان، لا تريد أن تفارقني، وأنا أشاهد ردات فعل المسافرين الذين تم منعهم لأسباب مختلفة، منهم شاب كان بالمكتب المجاور قام بحجز تذكرة رحلته الثانية في باريس من مطار أورلي بينما هو ينزل في مطار شارل دوغول والانتقال بين المطارين يعني الدخول إلى المدينة، مما يتطلب التأشيرة الأوربية التي لا تتوفر لديه، وهو خطأ لم بنتبه إليه عندما كان يحجز تذاكره، حتى بادرني الموظف بسؤاله عن الوجهة ثم عن ورقة تؤكد إجرائي لفحص PCR، أجبته أن وجهتي لا تتطلب إرفاقها، والفحص سأقوم به عند الوصول حسب قانونهم، لكنه رفض وأوما بذلك بعينيه وبرأسه في حركة مستفزة تفتقد لكل أدبيات المنصب الذي يعمل فيه، وهنا حافظت على هدوئي وأطلقت زفرة طالبا منه أن ينادي مديره، وهو لحسن الحظ نفس الشخص الذي تحدثت معه قبل أيام وتأكدت معه من إمكانية السفر في هذه الرحلة، وبما أنه مدير الرحلة فإن القرار بيده.

ما إن رآني حتى تذكرني، وأخبرته أن سلطنة عمان تفحص كل القادمين إليها في المطار، بتنزيل تطبيق هاتفي ودفع مبلغ معين هناك، وأي فحص غير ذلك لا يقبل منهم، وبعدما رأى أني متأكد من معلوماتي أشار للموظف بأن يستخرج لي بطاقة الركوب، وهنا شعرت بلذة انتصار ترجمتها بنظرة للموظف دون أن أقول شيئا، قال لي ماذا عندك كحقائب، دفعت حقيبتي الوحيدة في مكانها المخصص لوزنها وإضاقة ملصقات الرحلة عليها، وكم كانت خيبتي كبيرة عندما علمت أن ما قيل لي في كالة الخطوط الجوية الفرنسية عندما حجزت التذاكر عن إلزامية اصطحاب حقيبة واحدة من وزن 23كغ كحد أقصى، لم يكن صحيحا، وأنا قد تركت في البيت أشياء مهمة تمنيت لو أخذتها معي.

ودعت والدي ومرافقي، ومررت مباشرة لمنطقة شركة الحدود لأختم جوازي، وهي مرحلة تتسم بشيء من الحذر كل مرة بما أن اسمي سيتم اختباره في قاعدة بيانات الممنوعين من السفر، ورغم أني لم أقم بشيء يستدعي ذلك إلا أن الوساوس لا تفارقنا في كل رحلة نخرج أو ندخل فيها لبلد ما، وكم من شخص تم احتجازه وتعطيله لساعاته ثم يتبين أن الأمر مجرد تشابه في المعلومات ليس إلا، مرت إجراءات الشرطة بسلام وقد استحدثوا ورقة صغيرة تملأ فيها معلومات عن المسافر والوجهة، وهي ورقة تم الاستغناء عنها من سنوات على ما أذكر ولا أعلم سبب إعادتها مجددا.

وبعد تمرير حقيبة اليد في جهاز السكانير، ونزع الحزام وفتح جهاز الكمبيوتر المحمول وتشغيله كذلك، ثم المرور في السكانير والخضوع للتفتيش اليدوي، بأتي الدور على الجمارك، وهم الذين يسألون عن المبالغ المالية التي يمكن التصريح بها، بعدها مباشرة ذهبت لقاعدة الركوب وأنا أشاهد محلات المطار وما يسمى بمنطقة التسويق الحرة كلها موصدة خاوية على عروشها، ولا أدري في الحقيقة ما فعلوا مع أصحابها فيما يتعلق بحقوق الإيجار، ورواتب الموظفين.

التحقت بالبوابة وطابور الصعود إلى الطائرة واتخذت مكاني منتظرا دوري، إذ لازال هناك حاجز للأمن عند مدخل الرواق المؤدي للطائرة ليقوم مرة أخرى بالتفتيش، وقد كان بدويا فقط هذه المرة على غير العادة، مما أبطأ من حركة الدخول للطائرة بشكل واضح، وما إن تمت الإجراءات حتى وجدتني أنساب إلى الطائرة انسيابا وكأني بكل احتمالات فشل الرحلة قد انتهت، لكني أعدت النظر واستحضرت طول الرحلة ومحطاتها تاركا كل الاحتمالات مفتوحة على الأقل كي لا أصدم نفسيا من أي شيء مستجد مفاجئ لا قدر الله.

يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله